سورة الواقعة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الواقعة)


        


{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}
وفي نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول له وهو ظاهر تقديره فعل بهم هذا ليقع جزاء وليجزون بأعمالهم، وعلى هذا فيه لطيفة: وهي أن نقول: المعنى أن هذا كله جزاء عملكم وأما الزيادة فلا يدركها أحد منكم وثانيهما: أنه مصدر لأن الدليل على أن كل ما يفعله الله فهو جزاء فكأنه قال: تجزون جزاء، وقوله: {بِمَا كَانُوا} قد ذكرنا فائدته في سورة الطور وهي أنه تعالى قال في حق المؤمنين: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] وفي حق الكافرين: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7] إشارة إلى أن العذاب عين جزاء ما فعلوا فلا زيادة عليهم، والثواب: {جَزَاء مّمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فلا يعطيهم الله عين عملهم، بل يعطيهم بسبب عملهم ما يعطيهم، والكافر يعطيه عين ما فعل، فيكون فيه معنى قوله تعالى: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يَجْزِي إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها فالأولى: قالت المعتزلة: هذا يدل على أن يقال: الثواب على الله واجب، لأن الجزاء لا يجوز المطالبة به، وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة، وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه وهو ما ذكروه. ولو صح لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، وذلك لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح وعلم بالعقل أن القبيح من الله لا يوجد علم أن الله يعطي هذه الأشياء لأنها أجزية، وإيصال الجزاء واجب، وأما إذا قلنا: بمذهبنا تكون الآيات مفيدة مبشرة، لأن البشارة لا تكون إلا بالخير عن أمر غير معلوم، لا يقال: الجزاء كان واجباً على الله وأما الخبر بهذه الأشياء فلا يذكرها مبشراً، لأنا نقول: إذا وجب نفس الجزاء فما أعطانا الله تعالى من النعم في الدنيا جزاء فثواب الآخرة لا يكون إلا تفضلاً منه، غاية ما في الباب أنه تعالى كمل النعمة بقوله: هذا جزاؤكم، أي جعلته لكم جزاء، ولم يكن متعيناً ولا واجباً، كما أن الكريم إذا أعطى من جاء بشيء يسير شيئاً كثيراً، فيظن أنه يودعه إيداعاً أو يأمره بحمله إلى موضع، فيقول له: هذا لك فيفرح، ثم إنه يقول: هذا إنعام عظيم يوجب على خدمة كثيرة، فيقول له هذا جزاء ما أتيت به، ولا أطلب منك على هذا خدمة، فإن أتيت بخدمة فلها ثواب جديد، فيكون هذا غاية الفضل، وعند هذا نقول: هذا كله إذا كان الآتي غير العبد، وأما إذا فعل العبد ما أوجب عليه سيده لا يستحق عليه أجراً، ولا سيما إذا أتى بما أمر به على نوع اختلال، فما ظنك بحالنا مع الله عز وجل، مع أن السيد لا يملك من عبده إلا البنية، والله تعالى يملك منا أنفسنا وأجسامنا، ثم إنك إذا تفكرت في مذهب أهل السنة تجدهم قد حققوا معنى العبودية غاية التحقيق، واعترفوا أنهم عبيد لا يملكون شيئاً ولا يجب للعبد على السيد دين، والمعتزلة لم يحققوا العبودية، وجعلوا بينهم وبين الله معاملة توجب مطالبة، ونرجوا أن يحقق الله تعالى معنا المالكية غاية التحقيق، ويدفع حاجاتنا الأصلية ويطهر أعمالنا، كما أن السيد يدفع حاجة عبده بإطعامه وكسوته، ويطهر صومه بزكاة فطره، وإذا جنى جناية لم يمكن المجنى عليه منه، بل يختار فداءه ويخلص رقبته من الجناية، كذلك يدفع الله حاجاتنا في الآخرة، وأهم الحاجات أن يرحمنا ويعفو عنا، ويتغمدنا بالمغفرة والرضوان، حيث منع غيره عن تملك رقابنا باختيار الفداء عنا، وأرجو أن لا يفعل مع إخواننا المعتزلة ما يفعله المتعاملان في المحاسبة بالنقير والقطمير، والمطالبة بما يفضل لأحدهما من القليل والكثير.
المسألة الثانية: قالوا: لو كان في الآخرة رؤية لكانت جزاء، وقد حصر الله الجزاء فيما ذكر والجواب عنه: أن نقول: لم قلتم: إنها لو كانت تكون جزاء، بل تكون فضلاً منه فوق الجزاء، وهب أنها تكون جزاء، ولكن لم قلتم: إن ذكر الجزاء حصر وإنه ليس كذلك، لأن من قال لغيره: أعطيتك كذا جزاء على عمل لا ينافي قوله: وأعطيتك شيئاً آخر فوقه أيضاً جزاء عليه، وهب أنه حصر، لكن لم قلتم: إن القربة لا تدل على الرؤية، فإن قيل: قال في حق الملائكة: {وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 172]، ولم يلزم من قربهم الرؤية، نقول: أجبنا أن قربهم مثل قرب من يكون عند الملك لقضاء الأشغال، فيكون عليه التكليف والوقوف بين يديه بالباب تخرج أوامره عليه، كما قال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وقرب المؤمن قرب المنعم من الملك، وهو الذي لا يكون إلا للمكالمة والمجالسة في الدنيا، لكن المقرب المكلف ليس كلما يروح إلى باب الملك يدخل عليه وأما المنعم لا يذهب إليه إلا ويدخل عليه فظهر الفرق.
والذي يدل على أن قوله: {أولئك المقربون} [الواقعة: 11] فيه إشارة إلى الرؤية هو أن الله تعالى في سورة المطففين ذكر الأبرار والفجار، ثم إنه تعالى قال في حق الفجار: {إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وقال في الأبرار: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطففين: 28] ولم يذكر في مقابلة المحجوبون ما يدل على مخالفة حال الأبرار حال الفجار في الحجاب والقرب، لأن قوله: {لَفِي عِلّيّينَ} [المطففين: 18] وإن كان دليلاً على القرب وعلو المنزلة لكنه في مقابلة قوله: {لَفِي سِجّينٍ} [المطففين: 7] فقوله تعالى في حقهم: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون} مع قوله تعالى: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون لجلساء الملك عند الملك، وقوله في حق الملائكة في تلك السورة: {يَشْهَدُهُ المقربون} [المطففين: 21] يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون للكتاب والحساب عند الملك لما أنه في الدنيا يحسد أحدهما الآخر، فإن الكاتب إن كان قربه من الملك بسبب الخدمة لا يختار قرب الكتاب والحساب، بل قرب النديم، ثم إنه بين ذلك النوع من القرب وبين القرب الذي بسبب الكتابة ما يحمله على أن يختار غيره، وفي سورة المطففين قوله: {لَّمَحْجُوبُونَ} يدل على أن المقربين غير محجوبين عن النظر إلى الله تعالى، وينبغي أن لا ينظر إلى الله قولنا: جلساء الملك في ظاهر النظر الذي يقتضي في نظر القوم الجهة وإلى القرب الذي يفهم العامي منه المكان إلا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار.
المسألة الثالثة: قالوا قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على أن العمل عملهم وحاصل بفعلهم، نقول: لا نزاع في أن العلم في الحقيقة اللغوية وضع للفعل والمجنون للذي لا عقل له والعاقل للذي بلغ الكمال فيه، وذلك ليس إلا بوضع اللغة لما يدرك بالحس، وكل أحد يرى الحركة من الجسمين فيقول: تحرك وسكن على سبيل الحقيقة، كما يقول: تدور الرحا ويصعد الحجر، وإنما الكلام في القدرة التي بها الفعل في المحل المرئي، وذلك خارج عن وضع اللغة.


{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما الحكمة في تأخير ذكره عن الجزاء مع أنه من النعم العظيمة؟ نقول فيه لطائف الأولى: أن هذا من أتم النعم، فجعلها من باب الزيادة التي منها الرؤية عند البعض ولا مقابل لها من الأعمال، وإنما قلنا: إنها من أتم النعم، لأنها نعمة سماع كلام الله تعالى على ما سنبين أن المراد من قوله: {سَلاَماً} هو ما قال في سورة يس: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] فلم يذكرها فيما جعله جزاء، وهذا على قولنا: {أولئك المقربون} [الواقعة: 11] ليس فيه دلالة على الرؤية الثانية: أنه تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا، وهي الرؤية بالنظر كما مر وختم بمثلها، وهي نعمة المخاطبة الثالثة: هي أنه تعالى لما ذكر النعم الفعلية وقابلها بأعمالهم حيث قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] ذكر النعم القولية في مقابلة أذكارهم الحسنة ولم يذكروا اللذات العقلية التي في مقابلة أعمال قلوبهم من إخلاصهم واعتقادهم، لأن العمل القلبي لم ير ولم يسمع، فما يعطيهم الله تعالى من النعمة تكون نعمة لم ترها عين ولا سمعتها أذن، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيها: «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وقوله عليه السلام: «ولا خطر» إشارة إلى الزيادة، والذي يدل على النعمة القولية في مقابلة قولهم الطيب قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ} إلى قوله: {نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 32].
المسألة الثانية: قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} نفي للمكروه لما أن اللغو كلام غير معتبر، لأنه عند المعتبرين من الرجال مكروه، ونفي المكروه لا يعد من النعم العظيمة التي مر ذكرها، كيف وقد ذكرت أن تأخير هذه النعمة لكونها أتم، ولو قال: إن فلاناً في بلدة كذا محترم مكرم لا يضرب ولا يشتم فهو غير مكرم وهو مذموم والواغل مذموم وهو الذي يدخل على قوم يشربون ويأكلون فيأكل ويشرب معهم من غير دعاء ولا إذن فكأنه بالنسبة إليهم في عدم الاعتبار كلام غير معتبر وهو اللغو، وكذلك ما يتصرف منه مثل الولوغ لا يقال إلا إذا كان الوالغ كلباً أو ما يشبهه من السباع، وأما التأثيم فهو النسبة إلى الإثم ومعناه لا يذكر إلا باطلاً ولا ينسبه أحد إلا إلى الباطل، وأما التقديم فلأن اللغو أعم من التأثيم أي يجعله آثماً كما تقول: إنه فاسق أو سارق ونحو ذلك وبالجملة فالمتكلم ينقسم إلى أن يلغو وإلى أن لا يلغو والذي لا يلغو يقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيأخذ الناس بأقوالهم وهو لا يؤخذ عليه شيء، فقال تعالى: لا يلغو أحد ولا يصدر منه لغو ولا ما يشبه اللغو فيقول له: الصادق لا يلغو ولا يأثم ولا شك في أن الباطل أقبح ما يشبهه فقال: لا يأثم أحد.
المسألة الثالثة: قال تعالى في سورة النبأ: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذاباً} [النبأ: 35] فهل بينهما فرق؟ قلنا: نعم الكذاب كثير التكذيب ومعناه هناك أنهم لا يسمعون كذباً ولا أحداً يقول لآخر: كذبت وفائدته أنهم لا يعرفون كذباً من معين من الناس ولا من واحد منهم غير معين لتفاوت حالهم وحال الدنيا فإنا نعلم أن بعض الناس بأعيانهم كذابون فإن لم نعرف ذلك نقطع بأن في الناس كذاباً لأن أحدهم يقول لصاحبه: كذبت فإن صدق فصاحبه كذاب، وإن لم يصدق فهو كاذب فيعلم أن في الدنيا كذاباً بعينه أو بغير عينه ولا كذلك في الآخرة فلا كذب فيها، وقال هاهنا: {وَلاَ تَأْثِيماً} وهو أبلغ من التكذيب فإن من يقول في حق من لا يعرفه: إنه زان أو شارب الخمر مثلاً فإنه يأثم وقد يكون صادقاً، فالذي ليس عن علم إثم فلا يقول أحد لأحد: قلت مالا علم لك به فالكلام هاهنا أبلغ لأنه قصر السورة على بيان أحوال الأقسام لأن المذكورين هنا هم السابقون وفي سورة النبأ هم المتقون، وقد بينا أن السابق فوق المتقي.
المسألة الرابعة: {إِلاَّ قِيلاً} استثناء متصل منقطع، فنقول: فيه وجهان:
أحدهما: وهو الأظهر أنه منقطع لأن السلام ليس من جنس اللغو تقديره لكن يسمعون: قيلا سلاماً سلاماً ثانيهما: أنه متصل ووجهه أن نقول: المجاز قد يكون في المعنى، ومن جملته أنك تقول: مالي ذنب إلا أحبك، فلهذا تؤذيني فتستثني محبته من الذنب ولا تريد المنقطع لأنك لا تريد بهذا القول بيان أنك تحبه إنما تريد في تبرئتك عن الذنوب ووجهه هو أن بينهما غاية الخلاف وبينهما أمور متوسطة، مثاله: الحار والبارد وبينهما الفاتر الذي هو أقرب إلى الحار من البارد وأقرب إلى البارد من الحار، والمتوسط يطلق عليه اسم البارد عند النسبة إلى الحار فيقال: هذا بارد ويخبر عنه بالنسبة إلى البارد فيقال: إنه حار، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل: مالي ذنب إلا أني أحبك، معناه لا تجد ما يقرب من الذنب إلا المحبة فإن عندي أموراً فوقها إذا نسبتها إلى الذنب تجد بينها غاية الخلاف فيكون ذلك كقوله: درجات الحب عندي طاعتك وفوقها إن أفضل جانب أقل أمر من أمورك على جانب الحفظ لروحي، إشارة إلى المبالغة كما يقول القائل: ليس هذا بشيء مستحقراً بالنسبة إلى ما فوقه فقوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أي يسمعون فيها كلاماً فائقاً عظيم الفائدة كامل اللذة أدناها وأقربها إلى اللغو قول بعضهم لبعض: سلام عليك فلا يسمعون ما يقرب من اللغو إلا سلاماً، فما ظنك بالذين يبعد منه كما يبعد الماء البارد الصادق والماء الذي كسرت الشمس برودته وطلب منه ماء حار ليس عندي ماء حار إلا هذا أي ليس عندي ما يبعد من البارد الصادق البرودة ويقرب من الحار إلا هذا وفيه المبالغة الفائقة والبلاغة الرائقة وحينئذ يكون اللغو مجازاً، والاستثناء متصلاً فإن قيل: إذا لم يكن بد من مجاز وحمل اللغو على ما يقرب منه بالنسبة إليه فليحمل إلا على لكن لأنهما مشتركان في إثبات خلاف ما تقدم، نقول: المجاز في الأسماء أولى من المجاز في الحروف لأنها تقبل التغير في الدلالة وتتغير في الأحوال، ولا كذلك الحروف لأن الحروف لا تصير مجازاً إلا بالاقتران باسم والإسم يصير مجازاً من غير الاقتران بحرف فإنك تقول: رأيت أسداً يرمي ويكون مجازاً ولا اقتران له بحرف، وكذلك إذا قلت لرجل: هذا أسد وتريد بأسد كامل الشجاعة، ولأن عرض المتكلم في قوله مالي ذنب إلا أني أحبك، لا يحصل بما ذكرت من المجاز، ولأن العدول عن الأصل لا يكون له فائدة من المبالغة والبلاغة.
المسألة الخامسة: في قوله تعالى: {قِيلاً} قولان:
أحدهما: إنه مصدر كالقول فيكون قيلا مصدراً، كما أن القول مصدر لكن لا يظهر له في باب فعل يفعل إلا حرف ثانيهما: إنه اسم والقول مصدر فهو كالسدل والستر بكسر السين اسم وبفتحها مصدر وهو الأظهر، وعلى هذا نقول: الظاهر أنه اسم مأخوذ من فعل هو: قال وقيل، لما لم يذكر فاعله، وما قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال، يكون معناه نهى عن المشاجرة، وحكاية أمور جرت بين أقوام لا فائدة في ذكرها، وليس فيها إلا مجرد الحكاية من غير وعظ ولا حكمة لقوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم». وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال اسم للقول مأخوذ من قيل لما لم يذكر فاعله، تقول: قال فلان كذا، ثم قيل له: كذا، فقال: كذا، فيكون حاصل كلامه قيل وقال، وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال مأخوذ من قيل هو قال، ولقائل أن يقول: هذا باطل لقوله تعالى: {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88] فإن الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أي يعلم الله قيل محمد: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، كما قال نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} [نوح: 27]، وعلى هذا فقوله تعالى: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سلام} [الزخرف: 89] إرشاد له لئلا يدعو على قومه عند يأسه منهم كما دعا عليهم نوح عنده، وإذا كان القول مضافاً إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا يكون القيل اسماً لقول لم يعلم قائله؟ فنقول: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: إن قولنا: إنه اسم مأخوذ من قيل الموضوع لقول لم يعلم قائله في الأصل لا ينافي جواز استعماله في قول من علم بغير الموضوع وثانيهما: وهو الجواب الدقيق أن نقول: الهاء في: {وَقِيلِهِ} ضمير كما في ربه وكالضمير المجهول عند الكوفيين وهو ضمير الشأن، وعند البصريين قال: {فَإِنَّهَا لاَ تعمى الأبصار} [الحج: 46] والهاء غير عائد إلى مذكور، غير أن الكوفيين جعلوه لغير معلوم والبصريين جعلوه ضمير القصة، والظاهر في هذه المسألة قول الكوفيين، وعلى هذا معنى عبارتهم بلغ غاية علم الله تعالى قيل القائل منهم: {يا رب إِنَّ هَؤُلآء}، إشارة إلى أن الاختصاص بذلك القول في كل أحد إنهم لا يؤمنون لعلمه أنهم قائلون بهذا وأنهم عالمون، وأهل السماء علموا بأن عند الله علم الساعة يعلمها فيعلم قول من يقول: {يارب إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88] من غير تعيين قول لاشتراك الكل فيه، ويؤيد هذا أن الضمير لو كان عائداً إلى معلوم فإما أن يكون إلى مذكور قبله، ولا شيء فيما قبله يصح عود الضمير إليه، وإما إلى معلوم غير مذكور وهو محمد صلى الله عليه وسلم لكن الخطاب بقوله: {فاصفح} [الحجر: 85] كان يقتضي أن يقول، وقيلك يا رب لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المخاطب أولاً بكلام الله، وقد قال قبله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} [الزخرف: 87] وقال من قبل: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] وكان هو المخاطب أولاً، إذا تحقق هذا؟ نقول: إذا تفكرت في استعمال لفظ القيل في القرآن ترى ما ذكرنا ملحوظاً مراعى، فقال هاهنا: {إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما} لعدم اختصاص هذا القول بقائل دون قائل فيسمع هذا القول دائماً من الملائكة والناس كما قال تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام} [الرعد: 23، 24] وقال تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] حيث كان المسلم منفرداً، وهو الله كأنه قال: سلام قولاً منا، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صالحا} [فصلت: 33] وقال: {هِيَ أَشَدُّ وَطئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6] لأن الداعي معين وهم الرسل ومن اتبعهم من الأمة وكل من قام ليلاً فإن قوله: قويم، ونهجه مستقيم، وقال تعالى: {وَقِيلِهِ يارب} [الزخرف: 88] لأن كل أحد يقول: إنهم لا يؤمنون.
أما هم فلاعترافهم ولإقرارهم وأما غيرهم فلكفرانهم بإسرافهم وإصرارهم، ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى قال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} والاستثناء المتصل يقرب إلى المعنى بالنسبة إلى غيره وهو قول لا يعرف قائله، فقال: {إِلاَّ قِيلاً} وهو سلام عليك، وأما قول من يعرف وهو الله فهو الأبعد عن اللغو غاية البعد وبينهما نهاية الخلاف فقال: {سَلاَمٌ قَوْلاً} [يس: 58].
المسألة السادسة: {سلام}، فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه صفة وصف الله تعالى بها {قِيلاً} كما يوصف الشيء بالمصدر حيث يقال: رجل عدل، وقوم صوم، ومعناه إلا قيلا سالماً عن العيوب.
وثانيها: هو مصدر تقديره، إلا أن يقولوا سلاماً.
وثالثها: هو بدل من {قِيلاً}، تقديره: إلا سلاماً.
المسألة السابعة: تكرير السلام هل فيه فائدة؟ نقول: فيه إشارة إلى تمام النعمة، وذلك لأن أثر السلام في الدنيا لا يتم إلا بالتسليم ورد السلام، فكما أن أحد المتلاقيين في الدنيا يقول للآخر: السلام عليك، فيقول الآخر: وعليك السلام، فكذلك في الآخرة يقولون: {سلاما سلاما} ثم إنه تعالى لما قال: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] لم يكن له رد لأن تسليم الله على عبده مؤمن له، فأما الله تعالى فهو منزه عن أن يؤمنه أحد، بل الرد إن كان فهو قول المؤمن: سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
المسألة الثامنة: ما الفرق بين قوله تعالى: {سلاما سلاما} بنصبهما، وبين قوله تعالى: {قَالُواْ سلاما قَالَ سلام} [هود: 69] قلنا: قد ذكرنا هناك أن قوله: (سلام عليك) أتم وأبلغ من قولهم سلاماً عليك فإبراهيم عليه السلام أراد أن يتفضل عليهم بالذكر ويجيبهم بأحسن ما حيوا، وأما هنا فلا يتفضل أحد من أهل الجنة على الآخر مثل التفضل في تلك الصورة إذ هم من جنس واحد، وهم المؤمنون ولا ينسب أحد إلى أحد تقصيراً.
المسألة التاسعة: إذا كان قول القائل: (سلام عليك) أتم وأبلغ فما بال القراءة المشهورة صارت بالنصب، ومن قرأ (سلام) ليس مثل الذي قرأ بالنصب، نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب، فالنصب بقوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل، وقولهم: {سلام} أبعد من اللغو من قولهم: {سَلاَماً} فقال: {إِلاَّ قِيلاً سلاما} ليكون أقرب إلى اللغو من غيره، وإن كان في نفسه بعيداً عنه.


{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)}
لما بين حال السابقين شرع في شأن أصحاب الميمنة من الأزواج الثلاثة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في ذكرهم بلفظ: {أصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] عند ذكر الأقسام، وبلفظ: {أصحاب اليمين} عند ذكر الإنعام؟ نقول: الميمنة مفعلة إما بمعنى موضع اليمين كالمحكمة لموضع الحكم، أي الأرض التي فيها اليمين وإما بمعنى موضع اليمن كالمنارة موضع النار، والمجمرة موضع الجمر، فكيفما كان الميمنة فيها دلالة على الموضع، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض، ويتفرقون لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] وقال: {يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] فيتفرقون بالمكان فأشار في الأول إليهم بلفظ يدل على المكان، ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر مبهم لا يتشاركون فيه كالمكان، فقال: {وأصحاب اليمين} وفيه وجوه:
أحدها: أصحاب اليمين الذين يأخذون بأيمانهم كتبهم ثانيها: أصحاب القوة ثالثها: أصحاب النور، وقد تقدم بيانه.
المسألة الثانية: ما الحكمة في قوله تعالى: {فِى سِدْرٍ} وأية نعمة تكون في كونهم في سدر، والسدر من أشجار البوادي، لا بمر ولا بحلو ولا بطيب؟ نقول: فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر، واقتصروا في الجواب والتقريب أن الجنة تمثل بما كان عند العرب عزيزاً محموداً، وهو صواب ولكنه غير فائق، والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام الله لائق، هو أن نقول: إنا قد بينا مراراً أن البليغ يذكر طرفي أمرين، يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال: فلان ملك الشرق والغرب، ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما، ويقال: فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك، فنقول: لا خفاء في أن تزين المواضع التي يتفرج فيها بالأشجار، وتلك الأشجار تارة يطلب منها نفس الورق والنظر إليه والاستظلال به، وتارة يقصد إلى ثمارها، وتارة يجمع بينهما، لكن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة، ويجمعها نوعان: أوراث صغار، وأوراق كبار، والسدر في غاية الصغر، والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر، فقوله تعالى: {فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} إشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار، وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها، والورق أحد مقاصد الشجر ونظيره في الذكر ذكر النخل والرمان عند القصد إلى ذكر الثمار، لأن بينهما غاية الخلاف كما بيناه في موضعه، فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى ثمارها، وكذلك قلنا في النخيل والأعناب، فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة، وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار، وهذا جواب فائق وفقنا الله تعالى له.
المسألة الثالثة: ما معنى المخضود؟ نقول فيه وجهان:
أحدهما: مأخوذ الشوك، فإن شوك السدر يستقصف ورقها، ولولاه لكان منتزه العرب، ذلك لأنها تظل لكثرة أوراقها ودخول بعضها في بعض وثانيهما: مخضود أي متعطف إلى أسفل، فإن رؤوس أغصان السدر في الدنيا تميل إلى فوق بخلاف أشجار الثمار، فإن رؤوسها تتدلى، وحينئذ معناه أنه يخالف سدر الدنيا، فإن لها ثمراً كثيراً.
المسألة الرابعة: ما الطلح؟ نقول: الظاهر أنه شجر الموز، وبه يتم ما ذكرنا من الفائدة روي أن علياً عليه السلام سمع من يقرأ: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو (وطلع)، واستدل بقوله تعالى: {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] فقالوا: في المصاحف كذلك، فقال: لا تحول المصاحف، فنقول: هذا دليل معجزة القرآن، وغزارة علم علي رضي الله عنه.
أما المعجزة فلأن علياً كان من فصحاء العرب ولما سمع هذا حمله على الطلع واستمر عليه، وما كان قد اتفق حرفه لمبادرة ذهنه إلى معنى، ثم قال في نفسه: إن هذا الكلام في غاية الحسن، لأنه تعالى ذكر الشجر المقصود منه الورق للاستظلال به، والشجر المقصود منه الثمر للاستغلال به، فذكر النوعين، ثم إنه لما اطلع على حقيقة اللفظ علم أن الطلح في هذا الموضع أولى، وهو أفصح من الكلام الذي ظنه في غاية الفصاحة فقال: المصحف بين لي أنه خير مما كان في ظني فالمصحف لا يحول. والذي يؤيد هذا أنه لو كان طلع لكان قوله تعالى: {وفاكهة كَثِيرَةٍ} [الواقعة: 32] تكرار أحرف من غير فائدة، وأما على الطلح فتظهر فائدة قوله تعالى: {وفاكهة} وسنبينها إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة: ما المنضود؟ فنقول: إما الورق وإما الثمر، والظاهر أن المراد الورق، لأن شجر الموز من أوله إلى أعلاه يكون ورقاً بعد ورق، وهو ينبت كشجر الحنطة ورقاً بعد ورق وساقه يغلظ وترتفع أوراقه، ويبقى بعضها دون بعض، كما في القصب، فموز الدنيا إذا ثبت كان بين القصب وبين بعضها فرجة، وليس عليها ورق، وموز الآخرة يكون ورقه متصلاً بعضه ببعض فهو أكثر أوراقاً، وقيل: المنضود المثمر، فإن قيل: إذا كان الطلح شجراً فهو لا يكون منضوداً وإنما يكون له ثمر منضود، فكيف وصف به الطلح؟ نقول: هو من باب حسن الوجه وصف بسبب اتصاف ما يتصل به، يقال: زيد حسن الوجه، وقد يترك الوجه ويقال: زيد حسن والمراد حسن الوجه ولا يترك إن أوهم فيصح أن يقال: زيد مضروب الغلام، ولا يجوز ترك الغلام لأنه يوهم الخطأ، وأما حسن الوجه فيجوز ترك الوجه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8